## الجريمة تستنزف الاقتصاد البريطاني: فاتورة باهظة وتحديات متزايدة
في خضم نقاش متصاعد حول
السياسات الجنائية وتأثيرها على المجتمع والاقتصاد، يبرز تقرير جديد صادر عن مؤسسة
"بوليسي اكستشنج" (بورصة السياسات) اليمينية، ليكشف عن فاتورة باهظة
تدفعها بريطانيا سنوياً نتيجة تفشي الجريمة. يكشف التقرير، الذي استند إلى بيانات
رسمية وتحليلات معمقة، أن الجريمة تكلف الاقتصاد البريطاني ما يقارب ربع تريليون
جنيه إسترليني (321 مليار دولار أمريكي)، وهو رقم يمثل 10% من الناتج المحلي
الإجمالي للبلاد. هذا الرقم الصادم يضع الحكومة البريطانية أمام تحديات جمة،
ويستدعي مراجعة شاملة للاستراتيجيات المتبعة في مكافحة الجريمة وإصلاح النظام
القضائي.
![]() |
## الجريمة تستنزف الاقتصاد البريطاني: فاتورة باهظة وتحديات متزايدة |
يأتي هذا التقرير في
وقت تستعد فيه وزيرة العدل البريطانية شابانا محمود للإعلان عن تعديلات تشريعية
تهدف إلى تخفيف الأحكام الصادرة عن المحاكم، بهدف تقليل عدد المسجونين بنحو 6 آلاف
بحلول عام 2027. يتماشى هذا التوجه مع الرغبة في تخفيف الأعباء المالية على ميزانية
وزارة العدل، حيث تعتبر تكلفة السجون باهظة وتستنزف موارد الدولة. ومع ذلك، يثير
هذا التوجه مخاوف واسعة حول إمكانية تفاقم مشكلة الجريمة في حال تم تخفيف العقوبات
بشكل مفرط.
**تحليل معمق لتكاليف الجريمة**
يشير تقرير "بوليسي
اكستشنج" إلى أن تكاليف الجريمة تتجاوز مجرد الخسائر المادية المباشرة
الناتجة عن عمليات السرقة والنهب والتخريب. فالتقرير يأخذ في الاعتبار أيضاً
التكاليف غير المباشرة، مثل النفقات التي يتكبدها الأفراد والشركات لحماية أنفسهم
وممتلكاتهم من الجريمة. وتشمل هذه النفقات تركيب أنظمة إنذار، وتوظيف حراس أمن،
وزيادة التأمين، وتجنب بعض المناطق التي تعتبر خطيرة.
وفقاً للتقرير، تبلغ
التكاليف المباشرة للجرائم حوالي 170 مليار جنيه إسترليني (218 مليار دولار)، وهو
ما يمثل 6.5% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. تتوزع هذه التكاليف المباشرة على
النحو التالي:
- * **38 مليار جنيه إسترليني (49 مليار دولار):** أضرار تلحق بالشركات والأعمال التجارية، وتشمل الخسائر الناتجة عن السرقة والتخريب والاحتيال.
- * **31 مليار جنيه إسترليني (40 مليار دولار):** أضرار تلحق بالقطاع العام، وتشمل تكاليف الشرطة والمحاكم والسجون، بالإضافة إلى الأضرار التي تلحق بالممتلكات العامة.
- * **63 مليار جنيه إسترليني (81 مليار دولار):** أضرار تلحق بالأسر والأفراد، وتشمل الخسائر الناتجة عن السرقة والاعتداء والإصابات، بالإضافة إلى التكاليف النفسية والعاطفية التي يعاني منها الضحايا.
**ارتفاع معدلات الجريمة مؤشرات مقلقة:**
يعتمد تقرير "بوليسي
اكستشنج" على بيانات وسجلات الجرائم الصادرة عن وزارة الداخلية البريطانية،
والتي تشير إلى ارتفاع مقلق في معدلات الجريمة في السنوات الأخيرة. على سبيل
المثال، ارتفعت جرائم السرقة من المحال بنسبة 51% منذ عام 2015، لتصل إلى أعلى
مستوى لها خلال 20 عاماً. وفي الفترة ذاتها، زادت جرائم السرقة بنسبة 64%، وزادت
جرائم السلاح الأبيض بنسبة 89%.
- خلال العام الماضي وحده، تشير سجلات الشرطة إلى زيادة معدلات الجريمة بنسبة 12%
- وارتفعت الاعتداءات على النظام العام بنسبة 192%
- وزادت كلفة جرائم التزوير والنصب بنحو ثمانية أضعاف منذ عام 2006 حتى الآن.
- هذه الأرقام تدق ناقوس الخطر، وتؤكد على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة
- للحد من تفاقم مشكلة الجريمة.
**أسباب تفاقم مشكلة الجريمة**
يرجع تقرير "بوليسي
اكستشنج" تفاقم مشكلة الجريمة إلى ما وصفه بـ"النهج المتساهل" تجاه
الجرائم في المجتمع، والذي شجع على زيادة معدلاتها. ومن ملامح هذا النهج، وفقاً
للتقرير:
- * **انخفاض أعداد الشرطة:** انخفضت نسبة عدد أفراد الشرطة للسكان بنحو 10% عما كانت عليه عام 2010، مما أضعف قدرة الشرطة على مكافحة الجريمة والحفاظ على الأمن.
- * **تراكم القضايا أمام المحاكم:** خلال سبتمبر (أيلول) 2024، كان عدد القضايا المتأخرة أمام المحاكم 73 ألفاً و105 قضايا، نحو نصفها مؤجل منذ أكثر من ستة أشهر. هذا التأخير يؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب، ويشجع على ارتكاب المزيد من الجرائم.
- * **قلة توجيه الاتهامات:** يرى التقرير أن هناك تراجعاً في عدد القضايا التي يتم فيها توجيه الاتهامات إلى المشتبه بهم، مما يقلل من فرص إدانة المجرمين ومعاقبتهم.
- * **انخفاض مدد الحكم:** يرى التقرير أن المحاكم تتجه نحو إصدار أحكام مخففة على المجرمين، مما لا يردعهم عن ارتكاب المزيد من الجرائم.
- * **ازدحام السجون:** نتيجة لازدحام السجون الحالية، يتفادى المجرمون صدور أحكام بالسجن ضدهم، أو يتم الإفراج عن المسجونين بصورة مبكرة قبل انتهاء مدة العقوبة.
**توصيات للحد من الجريمة**
يقدم تقرير "بوليسي
اكستشنج" مجموعة من التوصيات التي تهدف إلى الحد من ارتفاع معدلات الجريمة في
بريطانيا، وتشمل هذه التوصيات:
- * **زيادة سعة السجون:** يوصي التقرير بتوفير مزيد من سعة السجون لتفادي النهج المتساهل تجاه الجريمة ومرتكبيها. ويقدر التقرير أن هناك حاجة لإضافة ما يصل إلى 53 ألف موضع في السجون على مدى الأعوام الـ10 المقبلة، وهو ما يرفع طاقة السجون البريطانية لاستيعاب 130 ألف نزيل.
- * **زيادة تمويل نظام القضاء الجنائي:** يوصي التقرير باستثمار 5 مليارات جنيه استرليني (6.5 مليار دولار) سنوياً في نظام القضاء الجنائي كله، يوجه نصف هذا المبلغ لزيادة الطاقة الاستيعابية للسجون البريطانية، إضافة إلى 1.9 مليار جنيه استرليني (2.5 مليار دولار) لزيادة أعداد الشرطة البريطانية، ونصف مليار (500 مليون) جنيه استرليني (642 مليون دولار) على المحاكم.
- * **تشديد الأحكام القضائية:** يوصي التقرير بزيادة وتشديد الأحكام القضائية بحق المجرمين المدانين، وبخاصة في الجرائم الخطرة، والتوقف عما وصفه الأحكام "المتساهلة بصورة تثير السخرية" التي تصدر بحق المجرمين.
- * **سن قانون خاص بالمجرمين الدائمين:** يطالب التقرير الحكومة بسن قانون يجعل القضاة في المحاكم يصدرون أحكاماً بحق المجرمين الدائمين – أي المدانين بأكثر من 45 جريمة – بما لا يقل عن السجن عامين.
**تضارب التوصيات مع السياسات الحكومية**
تتعارض توصيات تقرير "بوليسي
اكستشنج" للحد من الجريمة مع السياسات الحكومية المتوقعة، والتي تستهدف
مزيداً من تخفيف الأحكام بحق المجرمين، أو حتى الاستعاضة عن أحكام السجن بعقوبات
أخرى أخف، لتفادي اكتظاظ السجون وتقليل الكلفة على موازنة وزارة العدل. هذا
التضارب يثير تساؤلات حول قدرة الحكومة على معالجة مشكلة الجريمة بشكل فعال، في ظل
القيود المالية والرغبة في تخفيف الأعباء على ميزانية وزارة العدل.
**دعم واسع للتقرير**
حظي تقرير "بوليسي اكستشنج" بتأييد وزير الداخلية ووزير الخزانة السابق ساجد جافيد، وكبير الاقتصاديين السابق في بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) أندى هالدين. ونقلت صحيفة "تايمز" عن جافيد قوله "يعمل المجرمون على تدمير الروابط التي تجعل مجتمعنا متماسكاً.
- وتدمر أفعالهم الثقة في الآخرين والمؤسسات والحكومة
- ولا يمكن استمرار وضع يشعر فيه الناس بأنهم إذا بلغوا عن جريمة
- لن تهتم الشرطة بالملاحقة ولن يمثل الجناة
أمام القضاء".
**خلاصة**
يكشف تقرير "بوليسي اكستشنج" عن حجم التحديات التي تواجهها بريطانيا في مجال مكافحة الجريمة، ويؤكد على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف نزيف الخسائر الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تفشي الجريمة. وبينما تسعى الحكومة إلى تخفيف الأعباء المالية على ميزانية وزارة العدل من خلال تخفيف الأحكام.
يرى الكثيرون أن هذا التوجه قد يؤدي
إلى تفاقم مشكلة الجريمة، ويطالبون بزيادة الاستثمار في نظام القضاء الجنائي
وتشديد العقوبات على المجرمين. يبقى السؤال المطروح: هل ستتمكن الحكومة البريطانية
من إيجاد التوازن المناسب بين تحقيق الكفاءة المالية وضمان الأمن والاستقرار
للمجتمع؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد مستقبل السياسات الجنائية في بريطانيا،
وستؤثر بشكل مباشر على حياة الملايين من البريطانيين.